«رأينا الأسوأ»، تصف هذه العبارة على لسان الإعلام الروسي موقفَ الجيل الأكبر إزاء الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وتراجع قيمة الروبل قبل نحو شهرين، اللامبالاة التي وَشَت بها استطلاعات الرأي المؤيدة لبوتين، تأتي في خضمّ أقسى هجمةٍ غربيةٍ حتى تاريخه في محاولةٍ لعزلِ البلد الأكبر في العالم.
قبل ربعِ قرنٍ تقريباً، واجهت روسيا أزمةً مالية مشابهة، تخلّفت البلاد عن سداد ديونها الخارجية، وانخفضت قيمة الروبل ثلاث مرات، شُلَّ النظام المصرفي وانهارت أسعار النفط والخامات الأخرى.
الجيل الذي رأى الأسوأ حينها، لجأ إلى حيلةٍ تقليديةٍ ومبتكرة في الآن نفسه، معتمداً المقايضةَ في تأمين احتياجاته، حافظَت البلاد على حريةِ الأعمال، وتبنّت سياسةً رأسمالية تفتقرُ إلى جوهرِ الرأسمالية الحديثة أي النقود.
دُفع للعمال والموظفين حينها بسلعٍ مطلوبة (جوارب، زجاج…) حتى يسهلَ عليهم مبادلتُها، وتمكنت الشركاتُ الروسية من تنمية أعمالها باتباع النظام نفسه بشكلٍ أكثر تعقيداً وانتظاماً، بالطبع لم تكن هذه حالةً مُثلى يُرنى لها لكنها قدمت دروساً عدة أفادت منها حكومةُ بوتين ولعل من أهمها: توسيع الاحتياطي النقدي.
نجحت الدولة بالفعل في بناء حصنٍ ماليّ ضد التقلبات والعقوبات، معتبرةً من درس الأزمة المالية وبالعقوباتِ التي طالت الاتحادَ الروسي بعد ضمّ القرم في 2014، لكن التعافي السريع الذي حقَقَه الروبل بعد انخفاضِ سعرِ صرفِه إلى النصف في أعقاب العمليةِ العسكرية في أوكرانيا كان مفاجئاً، خاصةً في ضوءِ الإجراءات الدولية غيرِ المسبوقة والتي تجاوزت 5500 عقوبة ضد الاقتصاد الروسي.
في بلادنا التي تعيشُ أزمةً اقتصادية منذ 11 عاماً لا بدَّ أن يستدعي هذا الانتعاش مقارناتٍ مع تجربة الليرة السورية، رغم قصرِ عمرِ أزمةِ الروبل الروسي مقارنةً بالليرة التي كان أداؤُها أفضل في السنة الأولى من عمرِ الأزمة.
لكن هذا القياس يصبحُ مشروعاً بالنظر إلى التصعيد الغربي الأسرع تجاه روسيا، وإذا أخذنا بالاعتبار أيضاً التنوعَ والغنى في السياسات المتبعة لضبط سعر الصرف في سورية، والتي تجعل فهمَ سرِ صعود الروبل أكثر سهولة.
حافظَت الليرة في السنوات الأولى من الأزمة على أداء أفضل من الروبل في حال أخذنا المعيارَ الزمني فقط بالحسبان، إذ بلغت الخسائرُ في قيمةِ سعر الصرف 19 بالمئة في 2011 فقط، في حين خسرت الليرةُ ثلثَ قيمتِها في 2012 وثلثيها في 2013، مع الحفاظ على قيودٍ متراخية في تدفق القطع الصعب وخروجه.
في المقابل، اعتمدت سياساتُ تثبيت سعر الصرف على جلساتِ التدخل وإتاحةِ بيع الدولار للمواطنين؛ هذه الجهود سرعان ما تحولت باتجاه تقريبِ الفجوة مع السوق السوداء بدلاً من الحفاظ على قيمةِ الليرة عند سعرٍ معين، وهو ما أفسحَ المجال للمضاربات.
في غيابٍ أي معلوماتٍ عن مصيرِ الاحتياطي النقدي الذي قُدر بحوالي 18 مليار دولار في مُقتبل الأزمة، نجحت السلطاتُ النقدية في إعادة الثقة إلى الليرة بحلول 2014، إذ أصبح الضخُ عكسياً وتجاوزت مشترياتُ المركزي من الدولار حجمَ المبيعات.
في العام نفسه، صعدَ مستوى دعم المستوردات إلى حدود 10 ملايين دولار يومياً، التراجعُ المتدرج في الإيرادات عوضَته الدولارات التي دخلت البلاد بطريقةٍ غير شرعية، في المقابل جعلَ سعر الصرف المنخفض الصادراتِ السورية أكثر جاذبية.
نجح المركزي في حمايةِ معظمِ أصوله في البنوك الأوروبية وأعاد توطينَها وإيداعَها في حساباتٍ باليورو أو الروبل في البنك التجاري الروسي، نشطت التجارةُ مع الأردن، وزادت الوارداتُ العراقية من سورية بمقدار 40 بالمئة، كما كانت التصريحاتُ الحكومية في بداية الأزمة متفائلة بإمكانية العثور على أسواقٍ بديلة عن أوروبا لتصريفِ النفط الذي يشكل 45 بالمئة من الإيرادات الحكومية.
بدأت تكلفة التعويم الموجه لليرة تتبدى في السنواتِ اللاحقة، فمع انحسارِ الجزر المسلحة التي كانت مصدراً رئيسياً للدولار، أخذت آثارُ الحرب تصبحُ أكثر وضوحاً على الاقتصاد، والتي تجلت في تضررِ القاعدة الإنتاجية للبلاد بشكل كبير.
والجدير بالذكر أن منعكساتِ الحرب على الاقتصادِ الكلي كانت جليةً في السنوات الأولى للحرب، كخسارة الإيرادات السياحية (11% من الناتج المحلي) وانخفاض إنتاج النفط إلى 20 ألف فقط في 2013، فضلاً عن تقلص إنتاج القطاع الزراعي بنحو 32 بالمئة مقارنة بـ 2012، وتوقف 75 بالمئة من المنشآت الإنتاجية في حلب، علاوةً على صعوبةِ إرسال الحوالات إلى سورية، وغير ذلك.
تُقدم هذه الأرقام نظرةً غيرَ شاملة عن الإصابات البليغة التي تلقاها الاقتصاد في بداية الحرب فقط، والتي قابلتها نفقاتٌ استثمارية ناهزَت ربعَ مخصصات الموازنة آنذاك، إضافة إلى عيوبٍ هيكلية كصعوبةِ الإصلاح الضريبي الذي يشكل 30 بالمئة من الإيرادات، وتراكمِ العجوزات وانكماشِ الموازنات سنةً بعد سنة، وزيادةِ الحاجة إلى الإنفاق لدعم المجهود الحربي والحفاظِ على الاستقرار الاجتماعي.
في السنوات اللاحقة، بدأ سعرُ الصرف يصبحُ مشكلةً حقيقية، توقفت جلساتُ التدخل عبر المركزي، وبدأت البلاد تفعيلَ الضوابطِ المالية لتقييد الطلب والعرض ومنع تسرب العملة الصعبة إلى السوق السوداء، وهو ما لم ينسجم مع أهداف التنمية الاقتصادية وتسببَ في ارتفاعاتٍ مطّردة في الأسعار رغم الثباتِ النسبيّ في سعر الصرف.
الفرق بين تجربةِ الروبل وسيرة الليرة، هو أن الروس بدؤوا من النهاية، ففي روسيا فعّلت الحكومةُ الضوابطَ المالية على نطاقٍ واسع، محجّمةً شراءَ القطع الصعب وتهريبه، بعض هذه الإجراءات شملت تحديدَ عشرة آلاف دولار كحدٍ أقصى للسحب من حساباتِ العملات الأجنبية، وحظرَ دفع فوائد السندات الروسية المملوكة للأجانب بشكلٍ مؤقت، إضافة إلى رفع سعر الفائدة إلى عشرين بالمئة، وقرارِ بيع الغاز للدول غير الصديقة بالعملة الوطنية.
نجحت الإجراءات في إعادة الثقة المحلية بالروبل، فوَثَبَت العملةُ إلى مستويات ما قبل العملية العسكرية، وعادت 80 بالمئة من الأموال التي سحبها المودعون من حساباتهم المصرفية، لتبدأَ الحكومة من جديد تخفيفَ بعضِ القيود والإجراءات مستفيدةً من الفائض الذي يتيحه الميزان التجاري الإيجابي.
هل واءمت البلاد بين السياسة النقدية والإستراتيجية السياسية أم إن التصعيد الغربي أوحى لموسكو بشيء؟ ما يدعوه الأميركيون بالتلاعب لحماية الروبل، هو إجراء قاسٍ وتكييف لاقتصاد البلاد مع متغيرات يعتقد الروس على الأرجح أنها طويلة الأمد، وهذه التبدلات ستتضمن كما يبدو تحولاً في العلاقات الاقتصادية نحو دولٍ أخرى، الطلاق المرحلي للنظام المالي العالمي، وترشيد الاستهلاك.
إذا كان من درسٍ أعمق تعلمُنا إيّاه الأزمة المالية الروسية في التسعينيات، فهو أن المال خيالٌ جمعي الغرضُ منه حملُ عجلة الاقتصاد على الدوران. من دون قاعدة إنتاجية لا يمكن الاستفادةُ كما ينبغي من استقرارِ سعر الصرف، أما إدارة الاحتياطيات النقدية في الأزمات فلا يجدر أن تركزَ على تثبيتِ سعر الصرف فحسب، وإنما على التحوّطِ لدعم الإنتاج بالاعتمادِ على رؤيةٍ توفّق بين الاستشرافِ الاقتصادي والسياسي لمستقبل الأزمة، تحوطٌ كان سيسمح نظرياً بتسليف اقتصادنا المزيدَ من الوقت ضد التدهور المعيشي الحاصل في هذه الأيام.